الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا؛ وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر. وقيل: إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون؛ تجهيلا، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها. وقيل: إنهم كانوا يرون المنادي إلي بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها، جهلا منهم بمنزلتها؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله سبحانه قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون }الصلاة جامعة} فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي }الصلاة جامعة} للأمر يعرض. واختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة؛ فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما بجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، وقد نص على ذلك مالك في موطئه. واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين: أحدهما: سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى. وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي، وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة؛ قال أبو عمر: ولا أعلم اختلافا في وجوب الأذان جملة على أهل المصر؛ لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر؛ واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول؛ وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة، وفي حديث عبدالله بن زيد؛ قال: وهي زيادة يجب قبولها. وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره. قال أصحابه: وكذلك هو الآن عندهم؛ وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في أذان أبي محذورة، وفي أذان عبدالله بن زيد، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظي إلى زمانهم. واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان؛ وذلك رجوع المؤذن إذا قال{أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين} رجع فمد من صوته جهده. ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا قوله{قد قامت الصلاة} فإن مالكا يقولها مرة، والشافعي مرتين؛ واكثر العلماء على ما قال الشافعي، وبه جاءت الآثار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان والإقامة }الله أكبر} أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان؛ وحجتهم في ذلك حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما قعدة، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى؛ رواه الأعمش وغيره عن عمر بن مرة عن ابن أبي ليلى، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق. قال أبو إسحاق السبيعي: كان أصحاب علي وعبدالله يشفعون الأذان والإقامة؛ فهذا أذان الكوفيين، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا، كما يتوارث الحجازيون؛ فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين. ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة، ثم حي على الصلاة مرة، ثم حي على الفلاح مرة، ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله - الأذان كله - مرتين مرتين إلى آخره. قال أبو عمر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوه على الإباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وعمل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعا، ومن شاء رجع في أذانه، ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنى الإقامة، ومن شاء أفردها، إلا قوله{قد قامت الصلاة} فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال!!. واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح - وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم - فقال مالك والثوري والليث: يقول المؤذن في صلاة الصبح - بعد قوله: حي على الفلاح مرتين - الصلاة خير من النوم مرتين؛ وهو قول الشافعي بالعراق، وقال بمصر: لا يقول ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الأذان؛ وعليه الناس في صلاته الفجر. وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أنه لا بأس بذلك؛ لحديث محمد بن عبدالله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال؛ ثم أمر عبدالله بن زيد فأقام. وقال الثوري والليث والشافعي: من أذن فهو يقيم؛ لحديث عبدالرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن زباد بن الحرث الصدائي قال: وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه، ولا يطرب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الإطراب؛ فيرجعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول، ولا بما به يصول. ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز؛ وأما فضل الأذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح؛ واختلفوا في أخذ الأجرة على الأذان؛ فكره ذلك القاسم بن عبدالرحمن وأصحاب الرأي، ورخص فيه مالك، وقال: لا بأس به. وقال الأوزاعي: دلك مكروه، ولا بأس بأخذ الرزق عدى ذلك من بيت المال. وقال الشافعي: لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم قال بن المنذر: لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان. وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة، وفيه نظر؛ قوله تعالى{ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} أي أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح. روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول{أشهد أن محمدا رسول الله} قال: حرق الكاذب؛ فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه؛ فكانت عبرة للخلق }والبلاء موكد بالمنطق} وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا، فلا يؤخروا بعد ذلك؛ ذكره ابن العربي. { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون، قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} قوله تعالى{قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا} وفي التنزيل قوله تعالى{قل هل أنبئكم بشر من ذلك} أي بشر من نقمكم علينا. وقيل: بشر ما تريدون لنا من المكروه؛ وهذا جواب قولهم: ما نعرف دينا شرا من دينكم. }مثوبة} نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك؛ ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر؛ كما قال الشاعر: وقيل: مَفْعُلة كقولك مكرمة ومعقلة. }من لعنه الله} }من} في موضع رفع؛ كما قال وقرأ ابن وثاب النخعي }وأنبئكم} بالتخفيف. وقرأ حمزة{عبد الطاغوت} بضم الباء وكسر التاء؛ جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر، وأصله الصفة؛ ومنه قول النابغة: بضم الراء ونصبه بـ }جعل}؛ أي جعل منم عبدا للطاغوت، وأضاف عبدالى الطاغوت فخفضه. وجعل بمعنى خلق، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت. وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء؛ وجعلوه فعلا ماضيا، وعطفوه على فعل ماضي وهو غضب ولعن؛ والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت، أو منصوبا بـ }جعل}؛ أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ }من} دون معناها. وقرأ أُبي وابن مسعود }وعبدوا الطاغوت} على المعنى. ابن عباس{وعبد الطاغوت}، فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال: رهن ورهن، وسقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال: مثال ومثل، ويجوز أن يكون جمع عبد كرغيف ورعف، ويجوز أن يكون جمع عادل كبازل وبزل؛ والمعنى: وخدم الطاغوت. وعند ابن عباس أيضا }وعبد الطاغوت} جعله جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغايب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت للمبالغة، جمع عابد أيضا؛ كعامل وعمال، وضارب وضراب. وذكر محبوب أن البصريين قرؤوا: (وعباد الطاغوت) جمع عابد أيضا، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي (وعبد الطاغوت) على المفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة: (وعابد الطاغوت) على التوحيد، وهو يؤدي عن جماعة. وقرأ ابن مسعود أيضا (وعبد الطاغوت) وعنه أيضا وأبي (وعبدت الطاغوت) على تأنيث الجماعة؛ كما قال تعالى: قوله تعالى{أولئك شر مكانا} لأن مكانهم النار؛ وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم. وقال الزجاج: أولئك شر مكانا على قولكم. النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر. وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم. وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله. ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر: {وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون، وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون، لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قوله تعالى{وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} الآية. هذه صفة المنافقين، المعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. }والله أعلم بما كانوا يكتمون} أي من نفاقهم. وقيل: المراد اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي. قوله تعالى{وترى كثيرا منهم} يعني من اليهود. }يسارعون في الإثم والعدوان} أي يسابقون في المعاصي والظلم }وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون}. قوله تعالى{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} (لولا) بمعنى فلا. (ينهاهم) يزجرهم. (الربانيون) علماء النصارى. (والأحبار) علماء اليهود قال الحسن. وقيل الكل في اليهود؛ لأن هذه الآيات فيهم. ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال{لبئس ما كانوا يصنعون} كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله{لبئس ما كانوا يعملون} ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر؛ فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مضى في هذا المعنى في (البقرة وآل عمران). {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} قوله تعالى{وقالت اليهود يد الله مغلولة} قال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء، لعنه الله، وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك لهم؛ فقالوا: إن الله بخيل، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء؛ فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا. وقيل: فاستبدلت بعده جعدا أنامله كأنما وجهه بالخل منضوح واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى قوله تعالى{غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} حذفت الضمة من الياء لثقلها؛ أي غلت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاء عليهم، وكذا }ولعنوا بما قالوا} والمقصود تعليمنا كما قال قوله تعالى{بل يداه مبسوطتان} ابتداء وخبر؛ أي بل نعمته مبسوطة؛ فاليد بمعنى النعمة قال بعضهم: هذا غلط؛ لقوله{بل يداه مبسوطتان} فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد؛ فيكون مثل {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} قوله تعالى{ولو أن أهل الكتاب} (أن) في موضع رفع، وكذا }ولو أنهم أقاموا التوراة}. }آمنوا} صدقوا. }واتقوا} أي الشرك والمعاصي. }لكفرنا عنهم} اللام جواب (لو). وكفرنا غطينا، وقد تقدم. وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما؛ وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) مستوفى. }وما أنزل إليهم من ربهم} أي القرآن. وقيل: كتب أنبيائهم. }لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} قال ابن عباس وغيره: يعني المطر والنبات؛ وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب. وقيل: المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أكلا متواصلا؛ وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا؛ ونظير هذه الآية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} قوله تعالى{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}. قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت قوله تعالى{والله يعصمك من الناس} فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال:(1) قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما وقرأ أهل المدينة{رسالته} على الجميع. وأبو عمرو وأهل الكوفة{رسالته} على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} قال ابن عباس: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تُقر أن التوراة حق من عند الله؟ قال: [بلى]. فقالوا: فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها؛ فنزلت الآية؛ أي لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما؛ وقال أبو علي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما. قوله تعالى{وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم. والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه. وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى قوله تعالى{فلا تأس على القوم الكافرين} أي لا تحزن عليهم. أسي يأسى أسى إذا حزن. قال: وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن؛ لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. وقد مضى هذا المعنى في آخر (آل عمران) مستوفى. {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. }والذين هادوا} معطوف، وكذا }والصابئون} معطوف على المضمر في }هادوا} في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في }والصابئون} لأن }إن} ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و}الذين} هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام. قال الزجاج: وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد. وقال الخليل وسيبويه: الرفع محمول على التقديم والتأخير؛ والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد سيبويه وهو نظيره: وقال ضابئ البرجمي: وقيل{إن} بمعنى }نعم} فالصابئون مرتفع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات: ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه قال الأخفش: (إنه) بمعنى (نعم)، وهذه (الهاء) أدخلت للسكت. {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} قوله تعالى{لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا} قد تقدم في (البقرة) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به. والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود. وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله {وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون} قوله تعالى{وحسبوا ألا تكون فتنة} المعنى؛ ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي }تكون} بالرفع؛ ونصب الباقون؛ فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن. و}أن} مخففة من الثقيلة ودخول }لا} عوض من التخفيف، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه؛ ففصلوا بينهما (بلا). ومن نصب جعل }أن} ناصبة للفعل، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره. قال سيبويه: حسبت ألا يقول ذلك؛ أي حسبت أنه قال ذلك. وإن شئت نصبت؛ قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال: وإنما صار الرفع أجود؛ لأن حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت. قوله تعالى{فعموا} أي عن الهدى. }وصموا} أي عن سماع الحق؛ لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. }ثم تاب الله عليهم} في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان }تاب الله عليهم} أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة. }ثم عموا وصموا كثير منهم} أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فارتفع }كثير} على البدل من الواو. وقال الأخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم. وإن شئت كان على إضمار مبتدأ أي العمي والصم كثير منهم. وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير. وجواب رابع أن يكون على لغة من قال: (أكلوني البراغيث) وعليه قول الشاعر: ومن هذا المعنى قوله {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} قوله تعالى{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} هذا قول اليعقوبية فرد الله ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به؛ فقال{وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} أي إذا كان المسيح يقول: يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال }إنه من يشرك بالله} قيل: هو من قول عيسى. وقيل: ابتداء كلام من الله تعالى. والإشراك أن يعتقد معه موجدا. وقد مضى في (آل عمران) القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لإعادته. {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} قوله تعالى{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} أي أحد ثلاثة. ولا يجوز فيه التنوين؛ عن الزجاج وغيره. وفيه للعرب مذهب آخر؛ يقولون: رابع ثلاثة؛ فعلى هذا يجوز الجر والنصب؛ لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم. وكذلك إذا قلت: ثالث اثنين؛ جاز التنوين. وهذا قول فرق النصارى من الملكية والنسطورية واليعقوبية؛ لأنهم يقولون أب وابن وروح القدس إله واحد؛ ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم. وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة؛ وذلك أنهم يقولون: إن الابن إله والأب إله وروح القدس إله. وقد تقدم القول في هذا في (النساء) فأكفرهم الله بقولهم هذا، وقال }وما من إله إلا إله واحد} أي أن الإله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا؛ وقد مضى في (البقرة) معنى الواحد. و(من) زائدة. ويجوز في غير القرآن (إلها واحدا) على الاستثناء. وأجاز الكسائي الخفض على البدل. قوله تعالى{وإن لم ينتهوا} أي يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. }أفلا يتوبون} تقرير وتوبيخ. أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم؛ والمراد الكفرة منهم. وإنما خص الكفرة بالذكر لأنهم القائلون بذلك دون المؤمنين. {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} قوله تعالى{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} ابتداء وخبر؛ أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل؛ فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها؛ فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال{وأمه صديقة} ابتداء وخبر }كانا يأكلان الطعام} أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين؛ ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا؟! وقولهم: كان يأكل بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال: اللاهوت مخالط لكل محدث. وقال بعض المفسرين في قوله{كانا يأكلان الطعام} إنه كناية عن الغائط والبول. وفى هذا دلالة على أنهما بشران. وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى{وأمه صديقة}. قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام؛ وقد مضى في }آل عمران} ما يدل على هذا. والله أعلم. وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به؛ عن الحسن وغيره. والله أعلم. قوله تعالى{انظر كيف نبين لهم الآيات} أي الدلالات. }ثم انظر أنى يؤفكون} أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؛ يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه. وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة. {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم} قوله تعالى{قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا} زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم؛ أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟. }والله هو السميع العليم} أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع. ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة. والله أعلم. {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} قوله تعالى{قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق} أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى؛ غلو اليهود قولهم في عيسى، ليس ولد رشدة، وغلو النصارى قولهم: إنه إله. والغلو مجاوزة الحد؛ وقد تقدم في (النساء) بيانه. قوله تعالى{ولا تتبعوا أهواء قوم} الأهواء جمع هوى وقد تقدم في (البقرة). وسمي الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه في النار. }قد ضلوا من قبل} قال مجاهد والحسن: يعني اليهود. }وأضلوا كثيرا} أي أضلوا كثيرا من الناس. }وضلوا عن سواء السبيل} أي عن قصد طريق محمد صلى الله عليه وسلم. وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد؛ والمراد الأسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى. {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} قوله تعالى{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} فيه مسألة واحدة: وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء. وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم. ومعنى }على لسان داود وعيسى بن مريم} أي لعنوا في الزبور والإنجيل؛ فإن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى أي لعنهم الله في الكتابين. وقد تقدم اشتقاقهما. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: لعنهم مسخهم قردة وخنازير. قال أبو مالك: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة. والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. وقال ابن عباس: الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لعن الأسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى؛ لأنهما أعلما أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به. قوله تعالى{ذلك بما عصوا} ذلك في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن بما عصوا؛ أي بعصيانهم. ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ؛ أي الأمر ذلك. ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم. {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} قوله تعالى{كانوا لا يتناهون} أي لا ينهى بعضهم بعضا{لبئس ما كانوا يفعلون} ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم. قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا واستدلوا بهذه الآية؛ قالوا: لأن قوله{كانوا لا يتناهون عن المنكر فعلوه} يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود{ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا} }وما} من قوله{ما كانوا} يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها؛ التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه. أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي. {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} قوله تعالى{ترى كثيرا منهم} أي من اليهود؛ قيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقال مجاهد: يعني المنافقين }يتولون الذين كفروا} أي المشركين؛ وليسوا على دينهم. }لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} أي سولت وزينت. وقيل: المعنى لبئس ما قدموا لأنفسهم ومعادهم. }أن سخط الله عليهم} }أن} في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقولك: بئس رجلا زيد. وقيل: بدل من }ما} في قوله }لبئس} على أن تكون }ما} نكرة فتكون رفعا أيضا. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله عليه{وفي العذاب هم خالدون} ابتداء وخبر. { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} قوله تعالى{ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. }ولكن كثيرا منهم فاسقون} أي خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم. {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} قوله تعالى{لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} اللام لام القسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل. }عداوة} نصب على البيان وكذا }ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم؛ وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب. فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة (مريم) فقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم }ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} وقرأ }إلى الشاهدين} رواه أبو داود. قال: حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحرث بن هشام، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة، وساق الحديث بطوله. وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه، بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا. فيقال: إن النفر النصارى من أهل. نجران، ويقال: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات قوله تعالى{ذلك بأن منهم قسيسين} واحد }القسيسين} قس وقسيس؛ قال قطرب. والقسيس العالم؛ وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه؛ قال الراجز: يصبحن عن قس الأذى غوافلا وتقسمت أصواتهم بالليل تسمعتها. والقس النميمة. والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد. ويقال في جمع قسيس مكسرا: قساوسة أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. والأصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها. ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد، قال: حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب قال: قلت لسلمان }بأن منهم قسيسين ورهبانا} فقال: دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم }بأن منهم صديقين ورهبانا}. وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه؛ وكانوا أربعة نفر الذين غيروه؛ لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس. قوله تعالى{ورهبانا} الرهبان جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة: لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد والفعل منه رهب الله يرهبه أي خافه رهبا ورهبا ورهبة. والرهبانية والترهب التعبد في صومعة. قال أبو عبيد: وقد يكون (رهبان) للواحد والجمع؛ قال الفراء: ويجمع (رهبان) إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين؛ قال جرير في الجمع: الفادر المسن من الوعول. ويقال: العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة؛ قال الجوهري. وقال آخر في التوحيد: من الصلاة. والرهابة على وزن السحابة عظم في الصد مشرف على البطن مثل اللسان. وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال{وأنهم لا يستكبرون} أي عن الانقياد إلى الحق. {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} قوله تعالى{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع} أي بالدمع وهو في موضع الحال؛ وكذا }يقولون}. وقال امرؤ القيس: وخبر مستفيض إذا كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة. وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموتون؛ كما قال تعالى قوله تعالى{فاكتبنا مع الشاهدين} أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} قوله تعالى{وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق} بين استبصارهم في الدين؛ أي يقولون وما لنا لا نؤمن؛ أي وما لنا تاركين الإيمان. }نؤمن} في موضع نصب على الحال. }ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} قوله تعالى{فأثابهم الله بما قالوا جنات} دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم؛ فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم - وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة. ثم قال{والذين كفروا} من اليهود والنصارى ومن المشركين }وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} والجحيم النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها. ويقال أيضا لعين الأسد: جحمة؛ لشدة اتقادها. ويقال ذلك للحرب قال الشاعر: إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، ويترهبوا ويجبوا المذاكير؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين؛ إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه؛ قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة؛ ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة أمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. قال الطبري: فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ؛ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته. وقد جاء رجل إلى الحسن البصري؛ فقال: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال: يقول لا يؤدي شكره؛ فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ فقال: نعم. فقال: إن جارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. قال ابن العربي قال علماؤنا: هذا إذا كان الدين قواما، ولم يكن المال حراما؛ فأما إذا فسد الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل، وترك اللذات أولى، وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى. قال المهلب: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل. قوله تعالى{ولا تعتدوا} قيل: المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين؛ أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا فتحلوا حراما؛ قاله الحسن البصري. وقيل: معناه التأكيد لقوله{تحرموا}؛ قاله السدي وعكرمة وغيرهما؛ أي لا تحرموا ما أحل الله وشرع. والأول أولى. والله أعلم. من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحل الله فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك؛ إلا أنه إن نوى بتحريم الأمة. عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها. وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنه تطلق عليه ثلاثا؛ وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية، وحرام من كنايات الطلاق. وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة (التحريم) إن شاء الله تعالى. وقال أبو حنيفة: إن من حرم شيئا صار محرما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة؛ وهذا بعيد والآية ترد عليه. وقال سعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال. وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي.
|